كانت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 إحدى أهم لحظات التضامن في التاريخ العربي الحديث والتي جسدت مفهوم الأمن القومي على أحسن صورة. فالعمليات العسكرية الميدانية نفسها تمت وفق خطط منسقة بين مصر وسوريا جرى وضعها قبل الحرب. وأثناء الحرب دخل سلاح النفط ساحة المعركة بقرار جماعي عربي لم يكن يقل شجاعة.
غير أن هذه اللحظة التاريخية لم تدم طويلا، فسرعان ما دب الخلاف داخل الجبهة العربية المتراصة، حتى من قبل أن تضع الحرب أوزارها، ثم راحت الخلافات تتسع تدريجيا بعد توقف القتال حول سبل إدارة الصراع مع إسرائيل في مرحلة ما بعد الحرب إلى أن تحولت إلى انقسام حاد وصل ذروته بقرار الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات زيارة القدس في نوفمبر/تشرين الثاني 1977, ثم تحول الانقسام عقب إبرام مصر معاهدة سلام منفصل مع إسرائيل عام 1979, التي استمرت نحو عقد كامل من الزمان.
ورغم مرور ثلاثين عاما على إبرام هذه الاتفاقية لا يزال الجدل حول تأثيرها على الأمن القومي العربي محتدما بين النخب الفكرية والسياسية المصرية. ولأن هذا الجدل هو عرض لمرض أصبح عضالا, فلن يكون بوسع الأمة أن تبرأ منه إلا باستئصال جرثومته مرة واحدة وإلى الأبد, خصوصا أنها لم تحصد في النهاية سوى الضعف والمذلة والهوان.
ها هو بنيامين نتنياهو يعود، بعد ثلث قرن من جري العرب وراء سراب "السلام", على رأس حكومة يمينية متطرفة يحتمل أن يشغل فيها ليبرمان, الرجل الذي هدد بضرب السد العالي وبطرد من تبقى من الفلسطينيين في وطنهم, منصب وزير الخارجية!
"
ها هو بنيامين نتنياهو يعود, بعد ثلث قرن من جري العرب وراء سراب "السلام", على رأس حكومة يمينية متطرفة يحتمل أن يشغل فيها ليبرمان منصب وزير الخارجية
"
تجدر الإشارة هنا إلى أن موقف النخبة السياسية والفكرية في مصر من معاهدة "السلام" لم يكن موحدا, حيث تحمس لها البعض ورفضها البعض الآخر كليا.
غير أن منظور كل فريق, سواء المؤيد أو المعارض, لمدى تأثير المعاهدة على الأمن الوطني المصري من ناحية, وعلى الأمن القومي العربي من ناحية أخرى, لم يكن موحدا بدوره, حيث انقسم كل منهما إلى جناحين. ففي داخل الفريق الذي تحمس للمعاهدة يتعين التمييز بين جناحين:
الأول: لا يؤمن أصلا بوجود ارتباط بين أمن مصر الوطني والأمن القومي العربي. لذا فقد اعتقد هذا الجناح أن السادات قام بخطوة جريئة في الاتجاه الصحيح, واستطاع ليس فقط أن يستعيد كامل الأرض المصرية المحتلة, ولكن أيضا تخليص مصر من هم الارتباط بسياسات عربية شكلت عبئا ثقيلا عليها لسنوات طويلة.
والثاني: لا يشكك في وجود ارتباط بين البعدين الوطني والقومي للأمن المصري, لكنه يلقي باللوم على الدول العربية ويعتبرها المسؤول الرئيسي عن الكوارث التي ألمت بالأمة, بسبب جهلها وعدم قدرتها على استيعاب حقائق الواقع.
ويستدل على ذلك برفض هذه الدول للمبادرة وامتناعها عن المشاركة في مؤتمر مينا هاوس, مما أضعف الموقف التفاوضي للسادات منذ البداية, ثم عادت بعد ذلك بسنوات لتسير على نفس الدرب ولكن من موقع الضعف وليس القوة!
أما الفريق الذي عارض المعاهدة فيمكن التمييز بين جناحين في داخله:
الأول: رأى أن الاتفاقية أضعفت مصر في مواجهة إسرائيل وبالتالي أضرت أمنها الوطني, بصرف النظر عن مدى ارتباط الأمن الوطني المصري بالأمن القومي, ويستدل على ذلك بالقيود التي تضمنتها المعاهدة على حركة الجيش المصري في سيناء وحجم ونوعية تسليحه.
الثاني: يؤمن أصلا باستحالة الفصل بين الأمن الوطني المصري والأمن القومي العربي، ويرى أن كل ما يلحق الضرر بأمن مصر الوطني يؤثر سلبا بالضرورة على الأمن القومي العربي, ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن يؤدي إبرام مصر لمعاهدة سلام منفردة مع إسرائيل إلى إلحاق ضرر مؤكد بالأمن الوطني المصري, وبالأمن القومي بالتبعية, ويضعف مصر والعرب معا.
وأيا كانت وجاهة الحجج التي استند عليها هذا الفريق أو ذاك، فإن أي تحليل موضوعي للأسباب التي أدت إلى تردي الوضع العربي على النحو الذي نشهده الآن يفرض علينا أن نميز بوضوح بين ما يمكن اعتباره معلومات أو حقائق مجردة وبين وجهات النظر التي تستنتج منها أو تبنى عليها.
السادات قرر السلام منفردا
وانطلاقا من هذا التمييز, قد يكون من المفيد تذكير القارئ بجملة من الوقائع غير القابلة للجدل ومنها على سبيل المثال:
1- أن اتصالات سرية كانت قد جرت بين مصر وإسرائيل, خاصة في المغرب بين حسن التهامي وموشي ديان قبل أن يعلن السادات في مجلس الشعب استعداده لزيارة القدس. وقد اتضح مما نشر عن فحوى هذه الاتصالات ما يلي:
أن إسرائيل لم يكن لديها أية نية في الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 67.
أنها أبدت استعدادا للتعامل بقدر أكبر من المرونة في موضوع الانسحاب من سيناء, شريطة أن تكون مصر بدورها جاهزة للمضي قدما على طريق التسوية أيا كان موقف الدول العربية الأخرى.
2- أن قرار الرئيس السادات زيارة القدس لم يطرح على أو يناقش من أي جهة, وبالتالي لم يكن قرارا مدروسا أو مبنيا على إستراتيجية واضحة للتعامل مع تأثيراته ونتائجه المحتملة.
فالرئيس السادات لم يتشاور بشأنه مع أحد, سواء في مصر أو في الدول العربية, ولا تشير أية وثائق إلى أنه خضع للدراسة أو لعملية تقييم سابقة أو لاحقة, مثلما حدث مثلا عندما اتخذ حمال عبد الناصر قراره التاريخي بتأميم شركة قناة السويس عام 1956, وهو ما يفسر استقالة عدد من كبار مساعدي السادات سواء فور الإعلان عن هذا القرار أو خلال التفاوض مع إسرائيل في كامب ديفد.
"
إن اتصالات سرية كانت قد جرت بين مصر وإسرائيل, خاصة في المغرب بين حسن التهامي وموشي ديان، قبل أن يعلن السادات في مجلس الشعب استعداده لزيارة القدس
"
وتقودنا هذه الحقائق, وغيرها كثير, إلى نتيجة لا تقبل الجدل وهي أن السادات كان يدرك يقينا, حين اتخذ قراره بالذهاب إلى القدس, أن طريق التسوية المنفردة هو الطريق الوحيد المفتوح أمامه وأنه مستعد للسير فيه حتى النهاية.
ولأن محاكمة النيات, أو حتى محاولة استقصاء الدوافع الكامنة وراء الأسباب المعلنة, أو توزيع الاتهامات بالعمالة هنا والخيانة هناك, لم تعد تجدي شيئا، فضلا عن أنها باتت تشكل عبئا كبيرا على المستقبل وعلى كل الجهود الرامية للبحث على ضوء في نهاية النفق, فقد يكون من الأجدى مناقشة مجموعة الافتراضات التي بنى عليها السادات قراره, من منطلق حسن النية.
وفي تقديري أنه يمكن بلورة وعرض هذه الافتراضات على النحو التالي:
الافتراض الأول: أن الولايات المتحدة تملك 99% من أوراق الحل في حين لا يملك الاتحاد السوفياتي سوى دوره كمورد السلاح. ولأن السلاح لا يكون مطلوبا إلا في حالة استمرار الصراع, فلا يمكن البحث عن تسوية إلا بتوثيق الصلة إلى أبعد مدى ممكن مع الولايات المتحدة والابتعاد قدر الإمكان عن الاتحاد السوفياتي.
الافتراض الثاني: أن الوصول إلى قلب الولايات المتحدة يمر حتما بقلب إسرائيل, وبالتالي فسوف يفتح الذهاب إلى الكنيست بابا يمكن الولوج منه لبناء علاقة إستراتيجية مع واشنطن قابلة للتوظيف ليس فقط للضغط على إسرائيل والدول العربية الحليفة لها من أجل التوصل إلى تسوية شاملة, ولكن للحصول في الوقت نفسه على مساعدات اقتصادية وتكنولوجية تسمح بوضع مصر على طريق التنمية.
الافتراض الثالث: أن التوصل إلى التسوية مع إسرائيل من ناحية, وانطلاق عملية تنمية حقيقية في مصر من تاحية أخرى, سيؤديان إلى تصحيح خلل كبير أصاب موازين القوى الإقليمية بسبب الخلل في توزيع الثروة النفطية من ناحية, والأعباء التي تحملتها مصر نتيجة الحروب المستمرة مع إسرائيل من ناحية أخرى.
وأظن أنه بات من السهل الآن, وبعد مرور ثلاثين عاما على توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل, أن نستنتج هشاشة الأسس التي بنيت عليها هذه الافتراضات. فقد ثبت أن إسرائيل, وليس الولايات المتحدة, هي التي تملك معظم أوراق التسوية, وأن الأوراق التي تملكها مصر لا تكفي لإضعاف العلاقات الأميركية الإسرائيلية, وبالتالي فإن قدرة إسرائيل على توظيف الدور الأميركي لمصلحتها بأكبر بكثير من قدرة مصر, وأن حرص إسرائيل والولايات المتحدة على إخراج مصر من معادلة الصراع كان أكبر بكثير من حرصهما على التوصل إلى تسوية شاملة مقبولة عربيا.
لكن الأهم من ذلك كله أنه ثبت أن خروج مصر من معادلة الصراع مع إسرائيل قد يحول دون وقوع حرب شاملة في المنطقة لكنه لا يستطيع أن يصنع سلاما شاملا.
تأثيرات ثورة إيران وحرب الخليج
ولأن التاريخ لا يتوقف عند حدث بعينه وإنما تصنعه سلسلة متواصلة من الأفعال وردود الأفعال, فقد تزامن حدث التسوية المنفردة مع حدث آخر لا يقل أهمية فاجأ الجميع على غير توقع أو انتظار, وهو اندلاع الثورة الإسلامية في إيران, وراحا يتفاعلان معا, ولكن في اتجاهين متقاطعين, لتصنع محصلتهما في النهاية ملامح خريطة الصراعات في المنطقة على النحو الذي تبدو عليه اليوم.
فقبل اندلاع الثورة الإيرانية كان العالم العربي يبدو, نظريا على الأقل, جاهزا لمواصلة تحديه للشروط الإسرائيلية للتسوية, بالعمل على رصّ صفوفه ومحاولة ملء فراغ القيادة, فقرر قطع علاقاته الرسمية مع مصر وتجميد عضويتها في جامعة الدول العربية التي نقل مقرها إلى تونس, وأعلن عن قيام "جبهة للصمود والتصدي" سعى العراق لقيادتها.
"
السادات افترض أن الوصول إلى قلب الولايات المتحدة يمر حتما بقلب إسرائيل, وبالتالي فسوف يفتح الذهاب إلى الكنيست بابا يمكن الولوج منه لبناء علاقة إستراتيجية مع الولايات المتحدة
"
غير أن اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية قلب هذه الحسابات رأسا على عقب وأدى إلى انقسام "الجبهة" على نفسها. فبينما رأت سوريا أن إيران الثورة تمثل عمقا إستراتيجيا للعرب في مواجهة إسرائيل، رأى العراق, ومعه دول خليجية أخرى, أنها تشكل خطرا مباشرا على أمنه اعتقد أن عليه أن يواجهه ولو بالقوة المسلحة. وليس من المستبعد أن تكون الولايات المتحدة وإسرائيل قد سعتا معا لاستدراج العراق لشن حرب على إيران تدعمها دول الخليج العربي.
وأيا كان الأمر فقد وجدت الولايات المتحدة في الحرب فرصة ملائمة لاحتواء العراق وإيران معا, ومن ثم سعت لإطالة أمد الحرب إلى أقصى فترة ممكنة.
كما رأت فيها إسرائيل فرصة لتصفية حساباتها مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان, ومن ثم قررت -في محاولة لاستثمار عملية اغتيال السادات- شن الحرب على لبنان عام 1982 ونجحت في طرد قيادة المنظمة منها وترحيلها إلى تونس, واحتلال بيروت, وارتكاب مذابح صابرا وشاتيلا, وتنصيب بشير الجميل رئيسا للبنان وفرضت عليه توقيع معاهدة للسلام معها!
وكان من الطبيعي أن تثير محاولة إسرائيل أخذ زمام المبادرة في يدها على هذا النحو رد فعل منسقا من جانب سوريا وإيران.
نجح التنسيق السوري الإيراني, الذي كان من أهم نتائجه تشكيل حزب الله في لبنان, في إفشال المخطط الإسرائيلي وتمكن من إسقاط معاهدة التسوية التي فرضت على لبنان وعادت سوريا لتسيطر تدريجيا على الوضع الأمني في لبنان, وظل الحال على هذا المنوال إلى أن اضطرت إيران لوقف الحرب مع العراق عام 1988.
تراجع أولوية الصراع مع إسرائيل
وخلال هذه السنوات الطويلة تراجع تدريجيا موقع الصراع مع إسرائيل على قائمة الاهتمامات العربية, وبدأت تحالفات جديدة تتشكل في المنطقة على خلفية الحرب العراقية الإيرانية, حيث بدأ تقارب حثيث في المواقف يتشكل بين العراق, ومعها دول الخليج العربي من ناحية, ومصر من ناحية أخرى, وراح يتفاعل في اتجاه القبول بعودة الجامعة العربية إلى مقرها في القاهرة دون اشتراط تخلي مصر عن معاهدة السلام مع إسرائيل, وهو ما تم فعلا عام 1988.
ولاحت, في سياق هذه التطورات, فرصة جديدة لإعادة ترميم النظام العربي وتوحيد رؤيته بشأن كيفية مواجهة الأخطار الكثيرة التي باتت تهدد الأمن القومي العربي.
غير أن إقدام العراق على احتلال الكويت أعاد خلط الأوراق من جديد وقدم مبررا لتشكيل تحالفات إقليمية ودولية في مواجهته أدت في النهاية ليس فقط إلى إخراجه من الكويت بعد إلحاق هزيمة عسكرية كبيرة به وإنما إلى حصاره لسنوات ثم احتلاله وتدميره كليا.
ولأن معظم الدول العربية, بمن فيها سوريا ومن ورائها إيران, اصطفت بشكل مباشر أو غير مباشر وراء الولايات المتحدة في مواجهة العراق, تحت شعار العمل على إنقاذ دولة عربية من احتلال دولة عربية أخرى, في وقت بدت إسرائيل وكأنها تشكل عبئا على المصالح الأميركية في المنطقة, فقد لاحت عقب الحرب فرصة لتسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي.
وفي هذا السياق انعقد مؤتمر مدريد الذي شاركت فيه, ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي, جميع الدول العربية دون استثناء. ومع ذلك, استطاعت إسرائيل أن تجهض هذه المحاولة مرة أخرى وأن تفرض على الجميع منطقها ومنهجها في التسوية, بالتعامل مع مساراتها المتعددة بطريقة منفصلة كل على حدة, مما ساعدها على إعادة قذف الكرة إلى الملعب ومكنها من إيجاد تناقضات جديدة داخل الصف العربي.
كان هذا هو السياق الذي أبرمت فيه منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو التي شقت الصف الفلسطيني وعمقت الخلافات الفلسطينية السورية, والتي تبعها قيام الأردن بإبرام اتفاق وادي عربة.
وبهذه الطريقة نجحت إسرائيل في عزل المسارين السوري واللبناني, اللذين كانت سوريا شديدة الحرص على ربطهما معا, ثم عادت لتمارس سياسة الابتزاز والمماطلة على الساحة الفلسطينية انتظارا لفرصة مواتية تسمح لها بإغلاق طريق التسوية على هذا المسار أيضا. وحانت لها هذه الفرصة حين رفض ياسر عرفات شروطا للتسوية حاول إيهود باراك, بتنسيق كامل مع بيل كلينتون, فرضها عليه في مؤتمر كامب ديفد الثاني في نهاية عام 2000.
ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 لتقدم لأرييل شارون فرصة ذهبية أخرى, سمحت له بمحاصرة عرفات ثم بتصفيته نهائيا كمقدمة لتصفية حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية المسلحة كلها. أما بوش فقد أتاحت له هذه الأحداث فرصة ذهبية للعمل على وضع مخطط اليمين الأميركي المتطرف, والرامي للتمكين للهيمنة الأميركية على العالم طوال القرن الواحد والعشرين, موضع التطبيق. ولم يكن الاحتلال الأميركي للعراق سوى خطوة أولى في هذا المخطط ونقطة انطلاق لإعادة تشكيل خارطة المنطقة بعد إسقاط النظم الممانعة في المنطقة, وعلى رأسها إيران وسوريا.
تطابق رؤية أميركا وإسرائيل
وفي هذا السياق يمكن فهم حقيقة التطابق في الرؤية الإستراتيجية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وكيف أفسح هذا التطابق لإسرائيل الطريق لشن حربين كبيرتين متتاليتين لتصفية المقاومة المسلحة في المنطقة, الأولى على لبنان في صيف 2006 لتصفية حزب الله, والثانية على غزة في شتاء 2008-2009 لتصفية حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وفي سياق هذه الرؤية الإستراتيجية الأميركية الإسرائيلية المشتركة يمكن أيضا فهم حالة الاستقطاب التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من ولاية الرئيس بوش بين ما يسمى "معسكر الاعتدال" و"معسكر التطرف" في المنطقة.
غير أن فشل إسرائيل في كلا الحربين, ثم رحيل بوش من البيت الأبيض وسط أجواء أزمة اقتصادية عالمية أوضحت بكل جلاء مدى التآكل الذي أصاب مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي, كان يؤذن بإسدال الستار على مرحلة وبداية مرحلة جديدة من المرجح أن يظل نمط التفاعلات الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي هو المسيطر عليها أيضا.
خلاصة
شكل توقيع مصر على معاهدة سلام مع إسرائيل نقطة تحول في تاريخ المنطقة ترتب عليها إطلاق نمط جديد من التفاعلات اختلف كليا عن النمط القديم وكانت له تأثيراته الهائلة على الأمن في المنطقة, بشقيه الوطني (المصري) والقومي (العربي). وقد أدى هذا النمط إلى خروج مصر لأكثر من ثلاثين عاما من الصراعات العسكرية في المنطقة بالتوازي مع تآكل دورها وبروز قوى إقليمية أخرى غير عربية, خاصة إسرائيل وإيران وإلى حد ما تركيا, بدأت تلعب أدورا مركزية في تحديد مصير المنطقة.
ولأن التسوية الشاملة للصراع العربي الإسرائيلي لا تبدو في متناول اليد الآن, رغم مرور هذه الفترة الزمنية الطويلة, فإن المنطقة مرشحة لتفاعلات أخطر لن يكون بمقدور مصر -إذا ما استمرت سياساتها تجاه الصراع العربي الإسرائيلي على ما هي عليه- السيطرة عليها أو التأثير في مجرياتها. ومع ذلك فإن التحليل السابق يقودنا إلى استخلاص نتيجتين رئيسيتين:
الأولى: أن توقيع الرئيس السادات على تسوية منفردة مع إسرائيل شكل أحد الأسباب التي تفسر الخلل الراهن في الأوضاع الأمنية في المنطقة, سواء تعلق الأمر بأمن مصر الوطني أو بالأمن القومي العربي, لكنه لم يكن السبب الوحيد. فهناك أطراف عربية أخرى تتحمل, بسلوكها غير المنطقي وغير المبرر, النصيب الأكبر من المسؤولية عما وصلت إليه الأمور من تدهور.
الثانية: أن تصحيح الخلل الراهن في التوازنات المتعلقة بالأمن القومي العربي بات يتطلب ليس فقط أن تعيد مصر تقييم وتغيير سياستها تجاه الصراع العربي الإسرائيلي, ولكن أيضا بلورة رؤية عربية مشتركة لإدارة الصراع العربي الإسرائيلي وللتعامل مع التحديات ومصادر التهديد الأخرى التي تواجهها المنطق