سؤال لم تعد إجابته صعبة فالرؤية الشمولية للإصلاح تكاد تكون ضبابية في أكثر الأحيان إن لم تكن معتمة لدى شريحة كبيرة من دعاة العمل للإسلام ولتمكينه في الحياة !!
الرؤية الضبابية ، والصورة غير الواضحة لأسس وأركان تحقيق نهضة الأمة يفرغ كثير من المبادرات الإصلاحية من مضامينها الحقيقية ويصيرها لشيء آخر لا يحمل صبغة الإسلام وملامحه الحقيقية .
الأدلة والشواهد على هذه الدعوى كثيرة لكن استعراض بعض الملامح لحال الأمة اليوم على المستوى الفكري قد يساهم في فهم الفكرة التي يناقشها هذا المقال.
لا يخفى على عاقل أن العودة للإسلام دينا ومنهجا وصيغة للسلوك والأفعال ودليلا للحياة الصالحة صار شعارا براقا يخطف الأبصار ويهدئ المشاعر ويجبر الخواطر ويشعر البعض بأن ثمة خير قادم على يد أهل الإسلام وأتباعه .
لكن توالي الشواهد التي تشير إلى اختطاف الإسلام من قبل بعض العاطفيين المتسرعين في اتهام أي طرف لا يروق لهم عمله يشعر بالخطر الكبير وينبئ بأن وراء الأكمة شرا لا خيرا على الإطلاق !!
فمن الشر المكشر عن أنيابه هذه اللوثة العاطفية التي بدأت تجتاح بعض المتحمسين في تفسيق الناس وتجريمهم والبحث عن عوراتهم وأخطائهم باسم الحسبة أحيانا ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أغلب الأحيان !!
الموقف العاطفي غير المسيّج بلجام العقل يجعل بعض الدعاة في موقف المثبط والمخذّل للمجتمع وليس في موقف المتعاطف والحريص على المشاركة في التغيير الفعال والمنتج!!
ولعل تخوين الناس وإلصاق تهم الفسق والمجاهرة بالذنب هو الصورة البارزة للموقف المتطرف الذي يقوم به بعض الدعاة للإسلام.
إن دين الله عز وجل جاء ليتمم مكارم الأخلاق ومن أبجديات الأخلاق تحقيق معنى الأخوة الإسلامية التي تشمل الحرص على مصلحة الطرف الآخر ، وعلى كسب احترامه وتعاطفه قبل أي شيء آخر .
والحكمة ضالة المؤمن لأنها صمام الانضباط من الانجراف وراء اتهام المسلمين وتصيد أخطائهم .
هذه الأمة اليوم تعاني من تصحر عجيب في مشاعر الأخوة الإسلامية وجفاف مخيب للآمال في فهم وإدراك خطورة ممارسة لعبة شد الحبل بين أفراد المجتمع المسلم حتى ينقلب الناس إلى فريقين مؤمنين وفاسقين ، متقين وعصاة ، قابضين على الدين ومفرطين فيه . وكأننا في حلبة سباق أو ساحة ملاكمة يريد فيها كل طرف أن يسجل ضربة ساحقة على الطرف الآخر فيثبت قوته ، وسيادته، وتفوق منطقه ولغته في التعامل مع الأشياء !!
إن المجتمع المسلم لم يكن يوما مجتمعا ملائكيا ولم تكن أجيال السلف الصالح معصومة من الزلل والخطأ وارتكاب الآثام ورغم ذلك ظلت لحمة الإسلام تجمع الصفوف وتوحدها لا في بيوت الله للصلوات فقط ولكن في غالب نمط الحياة وطبيعة العلاقات والتفاعلات الاجتماعية التي تسود بين الناس .
وقد سجل التاريخ شهادته على تلك الحالة البشرية من التفاوت في الالتزام بالدين واختلاف مستوى الهمم في الالتزام بالسير على منهاج الله .
ورغم ذلك التباين في مستوى العمل والتطبيق لمنهج الإسلام لم نجد تنابزا في القول وعجبا في النفس من قبل أعلام الأمة وصالحيها .
بل كان الانكسار بين يدي الله والتواضع للمسلمين وخفض الجناح والأدب الرفيع في التعاطي مع عموم المجتمع بغض النظر عن مستوى التدين لهذا الشخص أو ذاك !!
كان الإسلام مهيبا وعظيما في قلوب أتباعه وكان الحرص على تجديد التوبة هو الإكسير الذي يغذي شرايين العلاقة بين العبد ومولاه فلا تعالي على المسلمين ،ولا منّ بصلاة ، أو عبادة ، أو علم !!
اليوم انتشر العجب بالطاعة ، وظهرت أمراض غريبة في الشخصية المسلمة منها التعالي على الناس بحجة العمل للإسلام وتخوين المسلمين والترصد لأفراد من المجتمع تتبعا للعورات وتصيدا للأخطاء والعثرات.
اليوم نقف أمام صور عجيبة وغريبة من بعض المنتسبين للعمل الإسلامي فالناس مذنبون حتى يظهر العكس ، ومن لم ينتسب لمدرستهم في تفسيق الناس فهو متهاون متهتك بائع لدينه لغرض زائل !!
ومن لا يجأر بالسخرية من العصاة فهو شريك معهم في المعصية ، ومن يمارس الستر والنصيحة في السر فهو مراء ، وبائع لدينه !!
أما من يطالب بتحرير العقل من الجمود والتقليد الأعمى فذلك هو التغريبي الضال المضل الذي غيّر وبدل في هويته وانتمائه !!
وإذا ما طالب أحد الكتاب ممن سئم الوصاية على عقول الناس من بعض المتعطشين لإطلاق الأحكام القاسية على إخوتهم في الدين فذلك هو الصحافي العميل والكاتب العلماني بامتياز !!
لقد أصبحنا أمام حالة من انخفاض الشعور بالأخوة الإسلامية لدرجة يرثى لها فنحن نتصيد أخطاء بعضنا البعض إلا من رحم الله عز وجل !!
ونحن نخوّن بعضنا بعضا لأن ثمة كاتبا دافع عن رأي خالف فيه رأي غيره حتى لم يعد ثمة حاجة للمزيد من بعثرة أوراق المسلمين فهاهم أبناء الإسلام منقسمون إلى تيارات وأفكار ومذاهب وثمة من يضرم النار ويجمع الحطب ليزيدها اشتعالا!!
وكل ذلك باسم الحرص على الإسلام والخوف على المسلمين وكأن ذلك الكاتب ما هو بمسلم وكأن تلك الصحيفة التي تلعن في الصبح والمساء أكثر مما يلعن إبليس نفسه ليس أفرادها من المسلمين !!
إن حالة التشرذم والبحث عن العورات لن ينتج عنها خير قليل ، أو كثير بل هي حالة تنبئ عن ضعف الترابط وتفشي روح الأنانية والكبر وكلها أدواء تنخر في كيان المجتمع المسلم وتصيه في أعز مكتسباته .
لقد جاء هذا الدين العظيم ليوحد أبناءه لا لينشر الفرقة بينهم وجاء ليداوي القلوب الكسيرة لا ليمزق الصفوف ويبعثر الطاقات . ومن لم يفهم هذا المبدأ الراسخ في الإسلام ويأتي بأفعال تضعف الرابطة الإسلامية وتنشر الوهن في الصفوف وتروض الناس على الإساءة لبعضهم وتجرؤهم على تجاوز الحقوق ومعاني الوحدة فهؤلاء لا يستحقون أصلا أن ينصبوا أنفسهم معلمين ودعاة ومصلحين !!
إن أحد أهم الصفات التي يجب أن تكون في المصلح الديني والاجتماعي هو حب الناس والترفق بهم ومعاملتهم معاملة لائقة وإذا ما حدث الخطأ وهو لا شك واقع فالحكمة والدعوة بالحسنى هي الصورة الطبيعية لتقويم الاعوجاج وتصليح الخلل .
ومن الجريمة الكاملة بحق هذا الدين العظيم أن يتحول بعض دعاته لجلادين يجلدون الناس بوصمهم بالخيانة والتغريب والفسق ومن يفعل ذلك ويصر على أن تكون وسيلته في التعاطي مع المجتمع القيام بدور القاضي الباحث عن القرائن والأدلة ضد المتهمين فهو شخص مريض ويعاني من ضعف في التصور لمعنى التغيير والإصلاح بالصورة الصحيحة واللائقة.
وبعد ..
فهذه القراءة العاجلة لا تشكل حكما نهائيا على الواقع المرتبك اليوم وإنما هي دعوة لتحليل مفردات وعناصر تشكيل واقعنا والبحث عن انواع الضعف والتقصير التي تعيق حركة النهضة والإصلاح كما أنها تحمل في مضامينها دعوة للإصلاح الحكيم وليس لحمل الهراوات وتوزيع التهم على المسلمين
وكل عام وأمتنا وبخير
وكل رمضان ونحن أكثر اهتماما بتقوية هذا الكيان ودعمه وتحقيق معنى الأخوة الإسلامية بصورة تقطع الشك باليقين بأن أبناء الإسلام هم دعاة لا قضاة وأن الذين يقومون بمهمة الإصلاح هم أطباء للقلوب والعقول ..رحماء فيما بينهم .. يخفضون الجناح للمؤمنين وينبهون المخطئ بصورة لا تضيع معها حقوق ومبادئ الأخوة الإسلامية ولا تؤدي لحدوث شروخ في الكيان المسلم الذي أراد الله له أن يكون قويا متعاونا على الخير محققا لمبادئ التكافل والرحمة بمعناها الواسع والكبير.
بقلم : مريم عبدالله النعيمي
كاتبة وباحثة إماراتية